أ.د. نصري الصايغ - قراءة في الكتاب

كتاب "حكايات كوندوروشكين – لبنان قبل قرن بريشة روسية"، يسحبك من زمنك، بكلمات صادقة يدعوك إلى أمكنتك، تلك التي كانت أجدادك، منذ قرن... تذهب معه، لا هرباً من واقع، بل حباَ بمجهول هو أنت من زمان، وببلاد هي لك، يوم لم تكن قد ولدت بعد.
كتاب، بعربية أنيقة وصادقة، عن أصل روسي أصيل، عن رجل محترف أدب يرى بلادي بعينيّ، فلا يبدو مستشرقاً أو مكتشفاً لعالم لا يشبه بلاده... بدا لي كوندوروشكين، أنه أحب بلادنا المختلفة، وتعامل معها بريشة القلب ومرآة العين وبراعة التصوير.
ما شعرت إبّان الرحلة، أن دليلي ليس عربياً. الترجمة، أو التعريب عن الروسية لم يكن باديًا على الصياغة، تهيّأ لي أنها هي التأليف. فالمترجم بدا كاتبًا بالعربية، لا ناقلاً عن الأجنبية، بدت لغته مألوفة طبيعية متقنة، برداء عربي لا تخدشه مرجعية، بلكنة أو معادل لغوي مختلف.. لذا تطابقت اللغة مع زمانها ومكانها، فكانت وكأنها الأصل.
بهذا الكتاب، تعرفت على بلدي. لم يكتب أحد من قبل، لا تاريخ البلد، ولم يصور أحد ما أتقنه، ببراعة أديب مصوّر كالكاتب كوندوروشكين. كأنه كان يسكر بالمشاعر، ويطرب لما تنقله العين إلى المخيلةـ ومنها إلى شؤون القلب. يقطع السياق بلطف الوصف. أدهشته الجبال، سحرته القرى، بهرته العادات والأزياء، وأنماط السلوك الخاصة بأهالي هذه البلاد... تعرفت على النهر الذي يحاذي قريتنا، بل تعرفت على مدرستها وأحد شخوصها، وكأنه جمع بصيغة المفرد.
لم يُعط لأحد أن يكون محيطاً ببلد، في ذلك العصر، يكتبه ولا يكتب عنه، يصفه ولا ينقله. تلك مهمات الأدباء، ومن الصفات التي لم تعط للجغرافيين و الرحالة والمؤرخين.
أسرتني طبيعة مرسومة بقلم كوندوروشكين، عين الآخر المختلف أكثر تبصراً واكتشافاً. ما كان عندي وجد روحه بنصوص كوندوروشكين، إنما ما يضاف إلى هذه الموهبة العلاقة التي نشأت بين الكاتب وسكان البلاد... عرفهم عن قرب، اكتشف معاناتهم، عاين مشكلاتهم، أخذها مادة لأدبه، صاغها بقصص شفوف بالوصف والمفاجأة والصدق. لم يبد لي أرثوذكسياً في بيئة مختلفة، ولا كان يشبه مرسلي الطوائف الأخرىالذين قدموا ليلقنوهم دينهم ولغتهم وثقافتهم. كما لم يظهر أنه كان على مسافة منهم، اقترب منهم أكثر، أكل طعامهم، احترم عاداتهم، وتفهم تقاليدهم، وأدرك مغزى صراعاتهم العائلية والمذهبية والذكورية.
لا شك، وأنا الذي لم أتعرف على كوندوروشكين من قبل، أنني أحببت كتابته، وأحبّها من أعرته الكتاب من أهل منطقتي. اكتشفوا أديباً سبق أن اكتشف أجدادهم، ونقل صورتهم، وحياتهم وصراعاتهم، بأمانة المبدع وليس بنسخ المقلّد...
اكتشاف أديب عاش في بلادنا في مطلع القرن العشرين، كان جديداً. الفضل في ذلك للأستاذ عماد الدين رائف، الذي اختاره وقدمه للقارئ العربي، كأديب ممتلئ حياةً، ماضيه أمامنا حيّ يرزق بقصصه وأسلوبه.
ولا بد من ملاحظة كوندوروشكين المسيحي، بدا أنه على علم وإلمام بالإسلام وبالمسلمين، بل انه كان يعرف عن الإسلام، ربما أكثر  من البسطاء المؤمنين بالمسيحية والإسلام. بدا ملماً بالعقيدة، وعادات المسلمين وفروضهم الدينية، ومقتضيات إيمانهم، وشيئاً من تاريخهم.
عرف لبنان مستشرقين كثراً، ولكننا لم نعرف أديباً مثل كوندوروشكين. نشكر للمترجم الذي تأدب فأنشأ كتاباً عن أصل روسي، اختفى من خلال جودة التأليف.

نصري الصايغ
7 شباط 2015.

Comments