حكايات كوندوروشكين - افتتاحية جريدة "النهار" بقلم الأستاذ سمير عطاالله

ما إن يصل الروسي إلى مكان جديد عليه، حتى يضع أمامه دفتره ويمسك بقلمه ويكتب، إما قصيدة أو قصة. جاء ستيبان كوندوروشكين إلى هنا العام 1898 ومعه قلم ودفتر ومراسلاته مع ماكسيم غوركي. عمل طوال خمس سنوات مفتشًا تربويًّا في جمعية المدارس الأرثوذكسية، التي كان يموّلها القيصر. وتنقل ما بين لبنان وسوريا وفلسطين، وترك مجموعة قصصية (*) تشكل لوحة إنسانية مريرة للقضية اللبنانية الخالدة، الطائفية.
هو، كانت مهمته في حد ذاتها، جزءًا من التنافس الطائفي: ليس تعزيز المدارس الأرثوذكسية ضد المدارس الإسلامية، بل ضد مدارس الروم الكاثوليك! فلمدرسة كانت مجموعة هويات، المذهب واللغة ومعها الانتماء. والمسألة لا تحتمل أي تغافل أو تساهل. القضية عظيمة.

إذا أردت دليلا سريعا على ذلك، إليك الخادمة الروسية أكولينا، العاملة في دير الراهبات في طرابلس. المشقة الكبرى، ليست عملها المتعب، بل إرغام العاملات الأخريات على التحدث بلغة المسيح، بدل هذه اللغة الهراطقية اللعينة. وما هي يا أكولينا لغة المسيح؟ الروسية، عليكم اللعنة.
تبدو "حكايات كوندوروشكين" كأنها مجموعة قصص قصير كتبت على طريقة أنطون تشيكون. لكنها في العمق رواية طويلة من فصول وأمكنة عدة. أو مسارح، إذا شئت. إلا أن الرابط الفقري لا يتغيّر: الاضطهاد النفسي أو الحسي، بين طوائف وأديان تتصارع على الأرض الضيقة، أو الأرزاق القليلة، أو الأساطير الكثيرة، التي تقسم الناس في حي واحد، أو حارة واحدة، وأحيانًا، بيت واحد، أو مجموعة من قبائل متضاغنة في عمق. ما سماه سبينوزا "الهيامات الحزينة". ماذا يعمّق هذه العبثيات؟ الجهل. مفتش التربية الروسي يعيش في بيئة بدائية، ويسمع دومًا نباح الكلاب الجائعة.

كتب الروسي درامياته هذه قبل مائة عام، على أنها مشاهد تصويرية لا أكثر. حتى الأسماء لم يبذل أي جهد لتمويهها. وجميعها من النوع الذي كان سائدًا آنذاك: شاهين وفدوى وحنينة. بلدات بلا طرقات أو عربات. بغال وحمير. وأما المدارس نفسها، ففي مبان صغيرة أو بيوت من الطين. ولا حاجة إلى الإشارة، أنها مقسمة بما يرضي الخواطر ويرد الأخطار: البنات في مكان، الصبيان في آخر.
يا للهوس الروائي عند الروس. إحدى أجمل القصص، أو المشاهد في المجموعة عن "يوم البريد في راشيا". اليوم الذي تصل فيه الرسائل من المغترب إلى الذين لم يهاجروا بعد. الجميع استيقظوا مبكرين في انتظار "البوسطة". حتى الكهنة أنهوا قداديسهم باكرًا. وأبناء البلدة الذين يعملون عادة خارجها، فضلوا البقاء هنا. منهم من ينتظر الرسائل، ومنهم من ينتظر الجرائد، ومنهم من ليس له أقارب أو جرائد، لكنه ينتظر الأخبار. يوم الجمعة "تبدو راشيا مثل قرية نمل أثارها طفل بعصا".
تصل الحقيبة الجلدية على ظهر بغل. ويقف الساعي على الشرفة مناديًا على أسماء الذين وصلتهم رسائل أو صحف. وكان سمعان أول من تسلم بريده، صحيفة "المحبة"، فما إن ألقى على عناوينها نظرة سريعة حتى انهالت عليه الأسئلة: كيف الأحوال في أوروبا؟ ماذا عن الخلاف بين روسيا واليابان حول منشوريا؟
يطرح الإسكافي ملحم على سمعان أسئلة إضافية وهو يشد الخيط الغليظ في النعل، معلقًا بدوره على أن بريطانيا ستدعم اليابان بسبب معاهدة الصداقة بينهما.
لكن ثمة ما يشغل بال ملحم أكثر من ذلك: رحلة الرئيس الفرنسي إلى روسيا. ماذا تراهم يعدّون؟ في هذه الأثناء يمر المعلم البروتستانتي، فيهتف له ملحم: هل سمعت الأخبار؟ سوف تلقن روسيا الإنكليز درسا لا يُنسى! لكن المعلم البروتستانتي كان حاسمًا: إنكلترا ستربح عليهم جميعًا. ومن بعيد هتفت امرأة بصوت عال: بالطبع النصر لروسيا!
كبرت دائرة المجتمعين حول دكان الإسكافي. وتزايدت الانقسامات. وعلا الصراخ. ثم قرر البعض الدخول في رهان مادي حول نتائج الحرب. أي حرب؟ لقد قلت للتو الحرب في منشوريا.
طغى على الصراخ صوت امرأة تبكي تنوح وتلطم. فقد فتحت الرسالة الواصلة، فإذا فيها نعي زوجها. أخذت تشق صدرها وتنتف شعرها وتولول. اتجه الجميع نحوها في دهشة وحزن. وعندما مضت نحو بيتها وهي تلطم، ذهب الجميع إلى منزلها يحاولون شيئا من المواساة.
قبل أن نختم المشهد في ساحة راشيا، يجب أن ننتبه إلى أن ملحم يخاطب سمعان في ذروة الجدل: قبل أن تربح حضرتك الحرب في منشوريا، تفضل سدد الدين الذي عليك. هل في إمكانك تخيل المشهد؟ خناقة في راشيا، أول القرن الماضي، حول حرب بين إنكلترا وروسيا واليابان؟
اعتقد أن المرة الوحيدة التي اجتمع فيها لبنانيون حقًا من دون نوازع طائفية دفينة، كانت أيضا في راشيا، أو بالأحرى في قلعتها العام 1943. بعد ذلك عاد الجميع إلى "يوم البريد" وحرب منشوريا. أو عادوا إلى مذكرات كوندوروشكين وهو يتنقل على بغلته من راشيا إلى مشغرة إلى شبعا، وأمامه مشهد واحد: أجمل صورة طبيعية في الأرض، ومجموعة بشر صغار يتقاتلون على حروب الدول الكبرى. وجميعهم ولاؤهم لأحد ما في خارج ما. وإذ ينتظرون جميعا "الأخبار"، فإن كل واحد يريد منها مل يريد منها. وما يريده منها هو أن تحمل هزيمة جاره. وجاره في هذا اللاوعي الممزق بالنزاعات والمنافسات، يمثل كل حروب الأرض، وصولا إلى منشوريا، يوم لا إذاعات بعد، ولا تلفزيونات، ولا عاجل.. عاجل، وإنما بالكاد صحيفة في بريد يوم الجمعة.

مذاهب وأديان، وقرى محفورة في الصخور لا مكان فيها لأي قادم جديد. ومع ذلك، فالقادم الجديد لا بد له من الاقتحام لأن لا مكان آخر له. وعندما يكون من دين آخر، يكون هناك الاحتمال الأخير: يطعن شاهين في شبعا بالانقضاض الجماعي عليه وهو نائم تحت لحافه. لم يكن شاهين خرقًا للنظام السكاني فحسب، بل كان تحديًا واضحًا للنسبية الطائفية.
مثل مخرج سينمائي بارع ينقل كوندوروشكين ريشته بين جمال الطبيعة وبشاعة الطبائع، ومن دون إبداء أي رأي، أو أي موقف. عندما يصف يوم الجمعة في راشيا، تقفز إلى ذاكرتك قرية هدفيل في فيلم فرد زيمان "عزّ الظهيرة" Hi noon. الوقوف على الحافة بين الثأر والقانون. بين السفر وترك العزّل لمصيرهم في مواجهة الرجل الشرير، وبين البقاء وخوض المعركة، أو بالأحرى المبارزة، التي هي صورة البشرية، سواء في قرية أو بلدة أو مدينة أو قارة. لا بد يا عزيزيّ ملحم وسمعان أن نفعل شيئا من أجل منشوريا.
إذن، كنا دائما هكذا، قبائل صغيرة ترفع أعلام سوانا. وأناس خائفون. النصر الوحيد الذي نحلم به ليس قيام الوطن، أو الدولة أو القانون، بل ما هو أكثر سهولة: انتصار اليابان أو إنكلترا، وأن يأتي يوم يهتدي فيه هؤلاء الهراطقة فيتعلمون التحدث باللغة التي تحدث بها المسيح، الروسية يا أبناء الزانيات.
أكولينا ليست مجرد خادمة أخرى في الدير. لا. إنها خادمة روسية، عرقها عرق القيصر، والهبات القيصرية هي التي تموّل حياة الدير. وبينما تخضع أكولينا لنظام الدير، تمارس الغطرسة على رفيقاتها. وتعلمت الخادمة الشابة، جليلة، كيف ترضيها وتخفف من حنقها المرضي. أخذت تخاطبها كل يوم بجملة روسية جديدة، كيف الحال يا سيدتي أكولينا، وكان وجه أكولينا الأجعد ينفرج حتى تكاد تبتسم أيضا، لولا حرمة المقام. وتنتهي حكاية كوندوروشكين هذه المرة بأن تعود أكولينا إلى روسيا وتروح جليلة تنتقل وتعمل مثل نحلة. أحيانًا، كما ترى، يأتي النصر من تلقاء ذاته، أحيانًا، وليس دائمًا. فالخلاص من الظلم عملية شائكة ومعقّدة، وأكولينا كانت تعرف في قرارة نفسها أنها كانت تمثل نفوذ القيصر، لا لغة المسيح.

=====
(*) "حكايات كوندوروشكين – لبنان قبل قرن بريشة روسية" في ترجمة ممتازة لعماد الدين رائف، توزيع دار المؤلف. 
حكايات كوندوروشكين - افتتاحية جريدة "النهار"، بقلم الأستاذ سمير عطاالله، 12 نيسان/ أبريل 2017

Comments