فكر جنكيز أيتماتوف والقارئ العربي

نشرت عن أدب وفكر جنكيز أيتماتوف خلال العامين الماضيين أكثر من عشرين ورقة بحثيّة على المواقع والصحف الالكترونية وعلى صفحتي كباحث مستقل في مؤسسة "أكاديميا"، حيث يمكن للقراء الاطلاع عليها. وأود هنا أن أشارككم بعض الأفكار فحسب. 

انطلاقًا من نتائج الاستطلاع الذي أجريته العام الماضي بين الزملاء الكتّاب والصحافيين في لبنان، والذي شمل مئتي كاتب وصحافي ومحرر، وكان ملحقًا بورقة بحثيّة بعنوان "أهمية أعمال جنكيز أيتماتوف للقارئ العربي المعاصر"؛ أظهرت أهم نتائجه أنّ 41 في المئة منهم على معرفة بأعمال جنكيز أيتماتوف (82 شخصًا) معظمهم من الكهول والكبار في السن (64 في المئة)، أما النسبة وفق الفئة العمرية الشابّة (من 25 إلى 35 سنة) فلم تتخط عتبة الـ 9 في المئة. في المقابل كانت نسبة الأشخاص المستطلعة آراءهم الذين لا يعرفون جنكيز أيتماتوف ولم يسمعوا به نحو 60 في المئة من مجمل أفراد العيّنة. ولا يخفى أنّ هذه النتيجة طبيعيّة جدًا بعد أكثر من ربع قرن على توقّف آلة النشر السوفياتية الضخمة التي شملت الترجمة والتعريب والتحليل والتحرير والتوزيع في جميع أقطار العالم، وأنّ كل ما أعيد طبعه من أعمال أيتماتوف خلال العقد الأخير لا يتخطى عدد أصابع اليد الواحدة. وكنت قد اقترحت خلال المنتدى العالمي الأول الذي نظّم في العاصمة القرغيزيّة بشكيك، صيف العام 2017، وفي سبيل إحياء الذكرى التسعين لميلاد الكاتب الكبير، أن يتم إصدار بطاقات إلكترونية (من مئة إلى ثلاثمئة) تحمل كل واحدة منها جملة من العناصر التي تعرّف المتلقي العربي بإرث جنكيز أيتماتوف الأدبي والفكري. أهم عنصر فيها هو قول مأثور للكاتب ينتقى بعناية ويترجم إلى العربية، وتحمل البطاقة مصدر الاقتباس (القصة أو الرواية أو المقابلة) واسم الكاتب، بالإضافة إلى عناصر جاذبة أخرى منها خلفيّة عليها صورة من أحد الأفلام السينمائية أو التلفزيونية تثير انتباه المتلقي إلى الإنتاج المرئي الضخم الذي رافق إبداع الكاتب، بالإضافة إلى طابع بريدي تذكاري على زاوية البطاقة (من المقترح استخدام البلوك البريدي القرغيزي الصادر سنة 2009، بالإضافة إلى الطوابع البريدية الروسية والسوفياتية الأخرى)، والعنصر الأخير الذي اقترحته هو إضافة لوغو للمنتدى يكون ثابتًا على البطاقات كلها. 
لا تخفى أهميّة هذه البطاقات، التي يمكن أن يكون موضوع اقتباساتها متنوعًا من الحب والمرأة إلى البيئة والحياة والسعادة وقيم التضامن والتسامح... ولا تخفى أهمية نشر هكذا بطاقات فكل واحد منا يتلقى يوميًا عبر "الفايسبوك" و"الواتس آب" و"التليغرام"... وغيرها من وسائط التواصل، عشرات البطاقات المتنوعة المواضيع، والتي هي بمعظمها غير ذات قيمة أدبية أو فنيّة ناهيك عن مستوى المصداقيّة فيها، فكيف إذا ما عمل على نشر ما هو هادف وراق كأقوال جنكيز أيتماتوف.

**

بعد العودة من بشكيك، عملت على نشر عدد من البحوث، ثم ضممت جزءًا منها في كتيّب بعنوان "على أعتاب ماناس برفقة جنكيز أيتماتوف"، أما الجزء الآخر فلم ينشر بعد. وقد سلكت المقالات المنشورة طريقين اثنين، الأول من الماضي المؤسس للقيم إلى الحاضر الذي جسّده أدب جنكيز أيتماتوف وفكره، والطريق الثاني بطبيعة الحال هو من الحاضر إلى الماضي لما في الحاضر من أدوات تساعد على فهم الماضي فهمًا كونيًا متعدد الثقافات مبنيًا على فكر أيتماتوف الإنساني العظيم. وكنت قد خصّصت ثلاثة أقسم من الكتاب للإضاءة على إشكاليّة قيد التطوير محورها إمكانيّة الإفادة من آداب أوراسيا الوافدة إلى القارئ العربي عبر بوابة اللغة الروسيّة، وخاصة في فنّي القصة والرواية. وهذه الإفادة تكمن في تلمّس مسار الكتابة من الماضي (الحكاية أو الأسطورة)، بلغة اليوم ومعضلاته استشرافًا للمستقبل. والنماذج التي يمكن أن تتفاعل معها هذه الإشكالية كثيرة، قد تطال أعمال عشرات من الكتّاب الكبار الذين لمعت أسماؤهم في فضاء الأدب السوفياتي أولًا، قبل أن تنطلق إلى العالميّة عبر ترجمة تلك الأعمال من اللغة الروسيّة، وكانت تلك الأعمال قد ترجمت إلى العربيّة أسوة باللغات العالمية الحيّة. وبالتوازي مع هذه الإشكالية، نلحظ أن نتاج العقدين الأخيرين لدى القاص والراوي العربي قد بدأ ينسلخ شيئًا فشيئًا عن الماضي، ليعالج المعضلات المجتمعية المتكاثرة بلغة اليوم الوافدة من الغرب وأدواته. ونحن إذ نتصدى لمقاربة هذه الإشكالية بأمثلة حيّة، نسعى من وراء ذلك إلى إثبات إمكانية معالجة آثار العنف بواسطة الكلمة. ويصبّ نتاج الكاتب الكبير أيتماتوف، في صالح تقريب الفكرة، لكون معظم أعماله قد وصلت إلى القارئ العربي مترجمة بلغة سلسة تُفهم تعابيرها المجازيّة وصورها الشعريّة، واستثمرت عناصر الخير في الماضي لتعالج معضلات الآني وتستشرف المستقبل، أي أنّها ببساطة وإلى حدّ ما قد تؤدي إلى معالجة الرواسب الحادّة لمعضلات الحاضر، وتخاطب القارئ بلغة الأمل مهما كان الواقع قاسيًا. وعلى الرغم من انتهائي من تلك الأقسام الثلاثة إلا أنّي تريثت في نشرها، وذلك ربطًا بنتائج الاستطلاع نفسه، وكي لا ترمى إلى متلق لم يعد موجودًا. 

**

اليوم، وأمام هذا الواقع، ومع احتساب نسب الخطأ في الاستطلاع إلا أنّه يعطينا فكرة أوليّة، أرى أنّه من الضروري بمكان نقل أعمال منتدانا الكريم في دورته الثالثة إلى إحدى الدول العربيّة، كي تحظى الأوراق القيّمة المقدمة من الزميلات والزملاء باهتمام عربي أكبر، وأرى أنّ مصر قد تحتل الأولوية في إمكانية استضافة المنتدى، فهي من جهة الدولة العربية الأكبر سكانًا، ومن جهة أخرى تترأس القاهرة الملتقى العربي لجمعيات متخرجي الجامعات والمعاهد السوفياتية والروسية للعامين المقبلين. 
أما أهم ما اقترحه عليّ الزملاء الصحافيون والكتّاب الذين تابعت معهم النقاش في العام الماضي، فتركّز على إمكانية بثّ فيلم وثائقي عبر الشاشة الصغيرة عن حياة أيتماتوف وإبداعه، على أن ينتقي المنتدى أحد الأفلام الوثائقية عن الكاتب والتي ظهرت خلال الأعوام القليلة الماضية، فيترجم الفيلم الوثائقي لتظهر الترجمة العربية أسفل الشاشة، ثم يرسل الفيلم مع رسالة رسمية من المنتدى إلى محطات التلفزة العربيّة الرسمية التي لا تمانع عن عرض مواد ثقافية وثائقيّة، ويكون على المنتدى التحضير لإعلان يسبق عرض الفيلم على الشاشات، وبالتالي نكون قد اقتربنا من المتلقي العربي خطوات في سبيل إحياء إرث الكاتب الكبير جنكيز ايتماتوف. 


ورقة قدّمت من عماد الدين رائف إلى المنتدى العالمي الثاني للكتّاب والمثقفين – قراءات أيتماتوف لحوار الثقافات (موسكو، 22-23 تشرين الثاني/ نوفمير 2018)

Comments