أبعد من موسكو ومن واشنطن

يحتفل محبّو أدب وفكر الكاتب العربي الكبير ميخائيل نعيمة (1889 – 1988) بالذكرى الثلاثين بعد المئة على ولادته في العام الحالي، وتنظّم للمناسبة فعاليات ثقافية في روسيا ولبنان وأوكرانيا. يعتبر نعيمة أبرز الخريجين اللبنانيين من معاهد روسيا القيصرية، حيث تخرج من سيمنار بولتافا الروحي في العام 1911، وكان قد أوفد بمنحة من الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية، بعد إنهائه بتميّز دار المعلمين التابع لها في الناصرة – فلسطين، ومدرسة بسكنتا المسكوبيّة. وقد استحقّ نعيمة أن يكون الرئيس الفخري لجمعية متخرجي جامعات ومعاهد الاتحاد السوفياتي في لبنان، منذ تأسيسها سنة 1970 وحتى وفاته، كما فخرت الجمعية بأن يرأسها هذا المبدع الذي ترك بصمات واضحة في مسارات الأدب العربي.  
في بولتافا، على مقاعد الدراسة تفتّحت عينا نعيمة الشاب على المعرفة عبر بوابة العصر الذهبي للأدب الروسي فتفاعل مع تراث عظيم تركه ألكسندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف وإيفان تورغينيف ونيقولاي غوغول وليف تولستوي وتاراس شيفتشينكو، وتأثر بهم في شعره ونثره. إثر عودته إلى لبنان انطلق نعيمة في رحلته الأميركية التي استمرت عقدين من الزمن، حيث لعب دورًا مهمًّا في إحياء الأدب المهجري إلى جانب صديقه جبران خليل جبران ونخبة من الأدباء والشعراء في "الرابطة القلمية". 
انقطع ميخائيل نعيمة عن روسيا لمدة 45 عامًا، حتى تلقّى دعوة من "اتحاد الكتاب السوفيات" فلبّاها في آب/ أغسطس 1956، وجال لمدّة 21 يومًا بين موسكو، لنينغراد، كييف، بولتافا وستالينغراد، ملتقيًا بالأدباء والأكاديميين والمستشرقين، ومطلعًا على الاتحاد السوفياتي عن قرب، وزائرًا المعهد الذي تخرّج منه. بعد عودته إلى لبنان، دوّن نعيمة انطباعاته عن زيارته إلى روسيا وأوكرانيا السوفياتيّتين ووضعها في كتاب أسماه "أبعد من موسكو ومن واشنطن" أبصر النور بطبعته الأولى سنة 1957، وسرعان ما نفدت فكانت الطبعة الثانية سنة 1963. ويذكر نعيمة أنّ ما دفعه إلى تلبية الدعوة هو "شوق إلى الاطلاع عن كثب على مدى الانقلاب الذي أحدثته الثورة في حياة بلاد عرفتها لأول مرّة منذ نصف قرن وما زلت أذكرها بالخير"، أما قصده من التدوين فليس مجرّد عرض لمشاهداته بل دوّن بحثًا فلسفيّا شخصيا ينبع من إيمانه بالإنسان ويؤلمه "أشد الألم أن يرى ذلك الإنسان يغرق اليوم حتى أذنيه في رغوة من المماحكات حول أيهما الأفضل: الرأسمالية أم الشيوعية؟". 
ولما كان ميخائيل نعيمة مطلعًا على هذين القطبين المتناقضين من الداخل، أراد أن يقدم رسالة على طريقته النقديّة يقارب فيها حلّ الخلاف باسطًا المسوّغات التي تدعو إلى التضامن والتضافر في سبيل تحقيق الرفاه والعدالة الاجتماعية. وهو في سبيل ذلك قدّم على نحو مئتي صفحة ما رآه من محاسن ومساوئ الرأسمالية والشيوعية، بلغة أدبيّة راقية وبأسلوب أنيق. ذلك ويعتبر كتاب "أبعد من موسكو ومن واشنطن" إضافة نوعية إلى كتاب نعيمة الشهير "سبعون"، الذي هو عبارة عن سيرة ذاتيّة ثلاثية الحلقات، وقد زيارته إلى الاتحاد السوفياتي صيف العام 1956 باختصار في الجزء الثالث من "سبعون" (1949 – 1959)، وفيه أنّه يحيل القراء إلى "أبعد من موسكو ومن واشنطن" للاطلاع على هذه الرحلة. 
اليوم، وبعد نحو ستة عقود على صدور الكتاب، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وعودة روسيا الاتحادية إلى الساحة الدولية، وعلى عتبة الاحتفال بالذكرة الـ 130 على ولادته، يظهر أن عددًا لا بأس به من الأفكار التي راودت نعيمة إثر رحلته إلى موسكو صيف 1956، وعالجها في كتابه "أبعد من موسكو ومن واشنطن" لا تزال تصلح ليومنا هذا. 


Comments