أبعد من موسكو ومن بيروت

في فيلمه السينمائي الطويل "معجزة عادية" يلعب المخرج مارك زاخاروف، مع معاونه في وضع السيناريو يفغيني شفارتس، على أعصاب المشاهدين على مدى 138 دقيقة، محولاً قصة حب يفترض بها أن تكون عادية بين شاب وأميرة، إلى كتلة من التعقيدات المتداخلة. الشريط السينمائي الذي حصد ملايين المشاهدين منذ عرضه على الشاشة الكبيرة في العام 1978، يهدف إلى إيصال فكرة بسيطة، وهي إمكانية معاندة القدر وتطويعه، مهما بلغت الصعوبات. ذلك كان قدر محمد زعرت ورفاقه في العاصمة الروسية نهاية خمسينات وبداية ستينات القرن الماضي. 
استعار زعرت عنوان كتيّبه "أبعد من موسكو ومن بيروت" من الكاتب الكبير ميخائيل نعيمة، الذي أصدر كتابه "أبعد من موسكو ومن واشنطن" حين كان زعرت لا يزال طالبًا ثانويًا يحلم بمقعد جامعي. 
"كنت أتمنى أن تكون المسافة بين بيروت وموسكو أقرب من المسافة بين تكميلية برجا الرسمية، وبيتنا المجاور". يروي محمد تفاصيل مضايقات شتى، تعرض لها ورفاقه قبل الوصول إلى الطائرة، التي حملتهم من بيروت إلى بروكسل، قبل أن تحط رحالها في ربوع موسكو السوفياتية. "نتيجة سياسة شمعون – مالك، كان محظراً على الشباب اللبناني بشكل خاص، وعلى اللبنانيين بشكل عام، السفر إلى الاتحاد السوفياتي.. والذي تزل به القدم ويدخل تلك البلاد، كان يصنف في خانة الشيوعي الخطر، أو الأحمر، حتى ولو كان يمينياً متطرفا. ولم يكن بإمكاننا الحصول على تأشيرة دخول إلى الاتحاد السوفياتي إلا بطريقة ملتوية – زيك زاك. كان علينا الحصول على تأشيرة دخول إلى بلد أوروبي آخر، إمعاناً في التمويه". حتى أقارب محمد الذين أقلوه إلى المطار "لم يكن أحد منهم يصدق أنني ذاهب إلى موسكو لطلب العلم، بل للتخصص في الشيوعية، على اعتبار أن الرأي العام عندنا، كان مقتنعاً آنذاك أن في موسكو لا يوجد تجارة أو علم.. وأن طلب العلم لا يتم إلا في فرنسا أو بريطانيا، أو في مصر (للطبقات المتوسطة المحافظة)، أما أميركا فهيهات.. إنها للمحظوظين".
وهكذا، وصل الزعرت إلى العاصمة الروسية وانخرط مع رفاقه في الدفعة الثانية من اللبنانيين، الذين وقتذاك "كانوا لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين"، وأولهم ابن زحلة سبيرو فاخوري الذي وصل موسكو عن طريق برلين في العام 1957، "على ذمة يوسف خطار الحلو"، كما يروى محمد رحلته في دفتر مذكراته "أبعد من موسكو ومن بيروت".
ابن برجا الذي عاد مهندسا، حين لم يكن أبناء المزارعين والعمال والصيادين يحلمون بشهادة جامعية، خاض مع رفاقه في لبنان غمار معركة أكثر شراسة من حصوله على الدبلوم، هي "معركة معادلة الشهادات". فبعد سبعة أشهر من المراجعات والشمشطة، بين الترجمات، والمداخلات، بين الاتصالات والمراجعات، شملت نواب المنطقة. كانت المعادلة تنام في الأدراج. وكانت النقابة تقول إنها أرسلت تستشير الملحقيات الثقافية في الدول الكبرى، خاصة أميركا وفرنسا وبريطانيا. ومع كل اختصاص، وفي كل لجنة خاض المتخرجون الأوائل صراعهم لنيل اعتراف رسمي لبناني بشهاداتهم. 
محمد ورفاقه، يقفون في مقدمة مسيرة أحد عشر ألف طالب جامعي تخرجوا من جامعات نحو خمسين مدينة سوفياتية. حملوا علوما مختلفة وعادوا ليخدموا قراهم وبلداتهم. مسيرة نصف قرن قطعها محمد ورفاقه اليوم، كان منعطفها التاريخي تأسيس "جمعية متخرجي جامعات ومعاهد الاتحاد السوفياتي" نهاية ستينيات القرن الماضي، وحصولها على العلم والخبر بتاريخ 20 شباط/ فبراير 1970.
يروي محمد ببساطة عن رفاقه، عن رحلة طوية من الدراسة إلى اختراق ميادين العمل، ثم إلى رحلة الدفاع عن الخريجين الجدد وشهاداتهم، وصولًا إلى مرحلة انهيار الاتحاد السوفياتي. 
"أبعد من موسكو ومن بيروت"، كتيّب صغير يوثّق حكاية معجزة باتت عادية اليوم، بعدما غدا التعليم الجامعي متاحًا لأبناء الفقراء، لكنها كانت في ستينيات القرن الماضي معجزة حقيقية، تشبه على حد بعيد معجزة زاخاروف، عندما عاند عدد قليل من الشبان والصبايا القدر.. وطوعوه.


Comments