أنا عائد من موسكو 1947

إثر النهوض المبكّر لمدن الاتحاد السوفياتي الكبرى من دمار الحرب الوطنية العظمى (1941-1945)، والذي حصل في وقت قياسي، شرعت "جمعية العلاقات الثقافية بين الاتحاد السوفياتي والبلدان الأجنبية – VOKS" باستقبال الوفود الأجنبية بغض النظر عن التوجهات السياسية لأعضائها، وكان من نصيب لبنان أن وجّهت الدعوة فيه شتاء العام 1947، إلى الطبيب جورج حنّا، الذي زاره مندوب هذه الجمعية في بيروت، فحار الطبيب في أمره واستمهله يومين ليردّ عليه. يقول حنّا: "يومان قضيتهما بالتفكير والدرس. هذه أمنية طالما دغدغتني منذ سنوات، تأتيني بوادر تحقيقها عفوًا. هناك عالم مجهول، ولغز يحار العالم في حل رموزه وغوامضه، ودعايات إيجابية ودعايات سلبية تحوط به من كل جانب". وأخطر ما في ذلك كان أن يُتهم لبناني بالشيوعية. يضيف: "وهل أنت شيوعي؟ كان عليّ أيضًا أن أجيب على هذا السؤال لجماعات من المتسائلين الفضوليين الذين أدهشتهم هذه الدعوة، وراحوا يعلقون عليها تعليقات مختلفة، منها ما هو مطبوع بطابع الدسّ السياسي، ومنها ما هو ملتقط من الألسنة المغرضة...". ثم يؤكّد الطبيعة العلمية البحتة لزيارته على صفحتين من كتابه الفريد من نوعه في ذلك الزمن "أنا عائد من موسكو" (بيروت: مطابع الكشّاف: نيسان/ أبريل 1947)، ذلك قبل أن يقول "لقد ذهبت إلى الاتحاد السوفياتي حرًا ورجعت منه حرًا". 
على أي حال لم يكن الطبيب حنّا وحده في هذه الرحلة السوفياتية التي استمرت خمسة وأربعين يومًا، فقد ضمّ الوفد اللبناني إليه أنطوان ثابت رئيسًا، ورئيف خوري، وإملي فارس إبراهيم، كما يقول يوسف خطار الحلو في "الرفاق والدرب"، إلا أنّ حنّا لم يأت على ذكر أسماء أعضاء الوفد للأسباب عينها، فلا يخفى ما لهؤلاء الرفاق من جهود جبارة في مقارعة الاستعمار الفرنسي والتواطؤ الداخلي من جهة، والعمل العلني في "عصبة مكافحة الفاشستية" طيلة فترة الحرب العالمية الثانية من جهة أخرى. 
"أنا عائد من موسكو" ليس كتابا فريدًا في توقيته الزمني فحسب، بل في مضمونه الغني كذلك، حيث التقطت عينا حنّا المحايدتان الملامح العامة للحياة السوفياتية في الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأبدى رأيه فيها، أجرى مقارنات دقيقة خاصة عند تناوله القطاعات الصناعية والزراعية والإنتاجية والعلاقات التجارية. وهو بعد المقدمة التي رآها ضرورية لإثبات الطبيعية العلمية البحتة لزيارته، رأى نفسها ملزمًا بتقديم الحقائق، التي بشكل غير مباشر تدحض الدعاية الغربية المركزة على بلاد السوفيات وشعوبها. 
قسّم حنّا كتابه إلى اثني عشر فصلا، وهي، الأول بعنوان "عالم جديد" يحكي فيه عن الاتحاد السوفياتي ككل، ثم يدخل في الفصل الثاني إلى ركني النظام وهما المعمل والكلخوز (التعاونية الزراعية)، ثم يعرض لأحوال التجارة في الثالث، وللتربية والتعليم في الرابع بعنوان "حرّم عليك الجهل"، ويصل في الخامس إلى صلب اختصاصه متحدثًا بالتفصيل عن مهنة الطب والإنجازات العلمية الباهرة التي حققت، وفي السادس يتناول أحوال المرأة والطفل والعائلة، ثم يخصص فصلا للحديث عن الدين بعنوان "بين الروح والمادة". ويخصص ثلاثة فصول للحديث عن زياراته إلى لينيغراد (سان بطرسبورغ حاليًا) وطشقند وباكو حيث انتهت رحلته السوفياتية في 18 آذار/ مارس، فيقارن في الفصل الحادي عشر بين الغرب والسوفيات في حديث لا بد منه عن الديمقراطية، ويترك الفصل الأخير لانطباعات ما بعد العودة من الاتحاد السوفياتي.
يظهر أنّ حنّا عكف فور عودته إلى بيروت على التدوين، ليخرج كتابه من المطبعة بعد أقل من شهر واحد، حيث كوّن رأيا في جميع الموضوعات التي طرحها كعناوين في الكتاب من جهة، وأجاب على أسئلة محدّدة كانت تشغل الرأي العام العربي من جهة أخرى، لعل أهمها ثلاثة: هل النظام الاشتراكي في روسيا متين الأركان أم أنّ هناك ما يهدّده بالتفسخ والانحلال؟ هل النظام السوفياتي في روسيا يمكن تطبيقه في غير روسيا؟ هل تعتقد أن الاتحاد السوفياتي يفكر بإثارة حرب لبسط نفوذه ونظامه على العالم؟ وبذلك يكون حنّا قد قدّم إضافة نوعية إلى كتابه "أنا عائد من موسكو" الذي يعتبر وثيقة شاهد عيان في فترة اشتعال الحرب الباردة. 


Comments