الهجرة الروسية إلى المغرب في القرن العشرين

هي رحلة علمية تاريخية مشوّقة دليلنا فيها الصديق الأستاذ نيقولاي فاديموفيتش سوخوف، منثورة في كتابه الذي صدر مؤخرًا "تاريخ الهجرة الروسية إلى المغرب في القرن العشرين". قضى سوخوف سنوات عديدة في المملكة المغربية، حيث تقلد مناصب دبلوماسية، والكتاب حصيلة جهد متواصل في البحث والتوثيق منذ العام 2008 إلى تاريخ صدوره، قبل نحو شهر، عن معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية، ضمن الأعمال التي نشرها المعهد لمناسبة الذكرى المئتين على تأسيسه. 
يرسم الكاتب بناء على مئات الوثائق المختلفة فسيفساء الهجرة الروسية إلى المملكة المغربية، وحياة الجالية الروسية فيها. يتوقف عند منعطفات القرن العشرين والأحداث التي ولدت موجات متلاحقة من الهجرة، حيث شكل المغرب المحطة الأخيرة والنهائية لعدد من المهاجرين الذين تنقلوا طويلا في الأصقاع. وعند تناوله المنعطفات الخطيرة في السياسة الدولية، وتأثر المهاجرين الروس أو تأثيرهم فيها، يدرسها بكل عناية مفصلا في المشكلات القائمة على أساس أيديولوجي حتى داخل المجتمع المهاجر نفسه. كما يتناول بالتفصيل المجتمع الكنسي الديني، ثم العلاقات المتشعبة فيما بين أبناء الجالية من جهة، والعلاقات بينهم وبين المجتمع المغربي المضيف من جهة أخرى. ويضفي ذلك على البحث رصانة علمية وصدقا في التعامل مع الوثائق، ما ينم عن خبرة طويلة لدى الكاتب في ذلك، ويشعرك بمدى الجهد والوقت اللذين بذلهما في سبيل البحث بصيغته النهائية التي بين أيدينا. ذلك ما دفع المحرر المسؤول عن إصدارات معهد الاستشراق ألكسي سارابييف إلى القول: "إن المنهاج العلمي الرصين الذي اتبعه الكاتب وتوظيفه المصادر التي لا تقدر بثمن في خدمة البحث، تجعل الكتاب فيدًا، ليس للباحثين التاريخيين فحسب، بل لمروحة واسعة من القراء".  
يتتبع الكاتب مصائر عشرات الأفراد والأسر التي حلت في المغرب، وتفاعلها مع البيئة المحلية. يبدو أن الجالية الروسية في المغرب محظوظة جدًا بأن يخصص لها باحث متمرس نحو عقد من الزمن لدراستها بالتفصيل؛ وعلى الرغم من ذلك ينهي الكاتب بحثه بعبارة "أنا مقتنع بأنّ تاريخ الروس في المغرب يتطلب المزيد من الدراسة". 
يقسم نيقولاي سوخوف كتابه إلى أحد عشر فصلا ومقدمة وخاتمة. يعرض الفصل الأول لتأسيس الجالية الروسية في المغرب، بعد مقدمة تتناول ظروف الهجرة وأسبابها ومظاهرها الأولى، ثم يدرس في الفصلين الثاني والثالث مواطن الهجرة بعنوان "بوابات المغرب الشمالية"، و"الفيلق الأجنبي". يتحدث الكاتب في الفصل الرابع عن خصائص مجتمع المهاجرين بعنوان "الزوايا الروسية"، وهو تفصيل في الموجة الأولى من الهجرة، ثم يتحدث في الخامس عن المجتمع الكنسي والجمعيات الأهلية وقرى المهاجرين ومعيشتهم، وينتقل في السادس إلى التفاعل مع المجتمع المضيف بعنوان "العلاقات الإنسانية مع المغاربة". يتوقف الكاتب عند فترة زمنية مهمة في الفصل التالي، حيث يدرس "المهاجرين الروس في المغرب إبان فترة الحرب العالمية الثانية"، ثم يفصّل في مظاهر "الموجة الثانية للهجرة الروسية إلى المغرب"، ثم يبحث في الفصل التاسع "مسارات ومصائر التأقلم" لدة مهاجري هذه الموجة. في الفصل العاشر يضع سوخوف المهاجرين تحت المجهر وهو بعنوان "المعادون والموالون للسوفيات وانقسام المجتمع المهاجر"، ثم يدرس في الفصل الأخير البعد الإنساني في العلاقة بين الروس والمغاربة.  
يقول الكاتب في خلاصة بحثه: على طول الفترة الزمنية المستعرضة في البحث حول تطور العلاقات المتبادلة بين الروس والمغاربة، وعلى خلفية المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية الرئيسة، التي حدثت في كل من المملكة المغربية والاتحاد السوفياتي السابق، تركزت مجموعة من العوامل الدولية والمحلية في التأثير على العلاقات الإنسانية بين روسيا والمغرب وهي لا تزال تؤثر فيها إلى اليوم. وعلى الرغم من كون الجالية الروسية كانت تشكل دائمًا جزءًا صغيرًا من سكان المملكة المغربية، إلا أن مساهمتها في إنشاء اقتصاد للبلاد كانت مهمة للغاية. وأحد الجوانب المهمّة في العلاقات يكمن في التفاعل الثقافي بين روسيا والمغرب، وخاصة عبر اللغة والثقافة الروسيتين. لقد حاول مهاجرو الموجتين الأوليين الحفاظ على لغتهم الأم، أولا وقبل كل شيء، ونقلها إلى أطفالهم. وقد بدأ المغاربة الذين كانوا على اتصال دائم بالروس التحدث باللغة الروسية.. وقد انتشرت الثقافة الروسية في المغرب بفضل جهود المواطنين الروس ذوي المبادرات الفردية، من الفنانين والموسيقيين المحترفين والأساتذة المقيمين الدائمين في البلاد والعاملين فيها. وقد أحدثت هذه الحركة أثرًا إيجابيا متبادلا بين الشعبين وأثرت تطور التفاعل الثقافي. ويضيف سوخوف: على صفحات هذا الكتاب، جرت محاولة عكس عملية تشكّل الجالية الروسية في المغرب في دينامياتها التاريخية ومكوناتها الرئيسة، واستعرضت مشكلات التكيّف واندماج المهاجرين الروس والسوفيات في المجتمع، وتمظهرات أنشطتهم وهياكلها التنظيمية، ودورها في تطوير العلاقات الإنسانية بين البلدين بما يتوافق مع التصنيفات الحديثة. وقد أفضت الدراسة إلى التحقيق في مشكلات التأقلم الاجتماعي لدى الجالية الروسية في المجتمع المضيف بكل تنوعه على مدار قرن من الزمن، وحددت أماكن الهجرة الروسية على الخريطة المغربية ودورها في التفاعل بين ثقافتي البلدين والشعبين.


Comments