كوندوروشكين ونحن.. بقلم الأستاذ صخر عرب

هل كان كوندوروشكين حياديا في حكايات الترحال التي كتبها عن سوريا؟ الجواب بكل بساطة أنه لم يكن حياديا البتّة، فقد أحب ستيبان كوندوروشكين بلادنا وأحبنا، وكتب أدبا جميلا وشيقا ممتعا عنا وعن بلادنا.
إنه ستيبان كوندوروشكين، المفتش التربوي للمدارس السورية الجنوبية، التابعة للجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية، الذي رسم بلادنا منذ أكثر من قرن بريشة روسية. بل بريشة عربية!
حكى لنا فيها ذلك الأستاذ الروسي الآتي إلينا، عن حياتنا وبلادنا، وكتب عنا. ووصف العادات والتقاليد وشرح المصطلحات، وصوّر البيوت، العائلة، الأسرة وكثرة الخلف والأولاد، والأشخاص بأسلوب شيق وممتع.
و أنا في هذه الأيام الباردة والشديدة "الصقوعة" أعيد قراءة ما ترجمه عماد الدين رائف لتلك الحكايات عن جبال لبنان، وقد تسللت لداخلي برودة النهارات والليل في تلك الأيام، أحسست ببردها يتغلغل في عظامي، ثم ما لبثت أن شعرت بدفء جمالها وسحرها، فاستمددت منها الحرارة في أيام "المستقرضات" هذه، الأكثر برودة في كل أيام السنة، لما ألقت العجوز – كما تخبرنا الطرائف الشعبية - بنَوْلِها وببابها ودولابها في موقد النيران، في صراعها مع برد وزمهرير شهري شباط وآذار إصرارا على الحياة.
لقد كتب عن البرد والصقيع والشتاء والشمس اللاهبة، ومثلما أخبرنا عن بطولاتنا الوهمية والحقيقية والفحولة الكلامية في الحديث عن النساء، وتلك النظرة الذكورية والتطير من الإناث ومسؤولية المرأة بتحديد جنس الأولاد! وكراهية البنت، وبالمقابل حب الإناث في البهائم كمصدر للخير، ولكثرة الرزق.
روى عن الجبليين الوعرين شبه المتوحشين - كما قال - وإن بحيادية ، مثلما حكى عن الموت والولادات وطريقة دفن الموتى. استفاض بالكلام عن النزاعات الطائفية والمذهبية والدينية، وعن ذلك الحب العميق للطائفة العابر للأوطان، وحتى للقارات. عن الوعور تكلم، وعن الروابي والهضاب والصخور والينابيع وجداول المياه والأنهر. عن القرى الملتصقة بالصخور والمنحدرات، التي تسبح بالغيوم البيض. أجاد بوصف الناس القساة، ولكن الطيبين. كما وصف الحمير والدواب والماعز، وغاص بعميق نفوسنا بحديثه عن شرارة الحياة فينا، وفي أرضنا العتيقة. وأكثر الكلام عن مملكة الحجارة والجدران والبلاد ذات اللون الرمادي، حتى عشقناه أكثر مما كنا نحبه. وعبّر لنا عن زفرات حرمون وقبعته البيضاء طيلة فصول السنة، وعن راشيا الوادي ومشغرة وطرابلس ودير المخلص، وطرقات الثلج ودروب الدواب.
لم ينس وصف البيوت ذات الجدران الأمامية المتداخلة بالانحدارات والصخور، والمياه الهادرة بصخب الحياة التي تدير طاحونة شبعا العرقوبية، وكأنها السبب الوحيد للحياة بالمنحدر الغربي لجبل الشيخ. ووصف الثعالب وبنات آوى – الواوية - والدببة البنية -قبل اختفائها- والأفاعي والسحليات والعصافير، وسائر حيوانات هذه البلاد. وتكلم عن ناسها القساة الأجلاف. عن المسيحيين الخائفين من ملاحقة الدروز وقسوتهم– وكل تلك التعابير للأديب الروسي-، وعن تأديتهم لفروض الاحترام أمام المسلمين، غير المسموح لهم بامتطاء الخيول المسرجة، والاكتفاء بركوب الحمير والبغال، وطأطأة الرؤوس أمام المسلمين بعد هزيمة قيصر روسيا مع الأتراك عام 1877، قبل أن يثبت عكس ذلك.. ولم ينس أن يتكلم عن صلف المسيحيين وعنادهم-كما يقول-.
يجعلنا كوندوروشكين نحب بعضنا بعضا بمجرد أن يصفنا كما نحن، بعيوبنا وفضائلنا وطيبتنا وسخافاتنا وشهامتنا وتواضعنا وجرأتنا وجبننا وتعلقنا بأرضنا.. بمجرد أن يبدأ بسرد ما يعرفه عنا، وعن السخرية والفضول والحشرية والرضى والقبول بأقدار الله وانتظار رحمته والخوف من معصيته، حتى نتذكر حالنا وأنفسنا وقد نسيناها. فنتعلق بأنفسنا وبالحياة، ونحس بنبضها في قلوبنا وجوارحنا.
لا ينسى كوندوروشكين أن يتكلم عن الروسيات _كما الروسيين_ الكارهين للغة العربية – وازدرائهم لها-، وعن الصراع المذهبي بين دُول الغرب المسيحية الكبرى، ومحاولة بعضهم إبعاد مسيحيي سوريا - بلاد الشام -  عن هرطقة وكُفُر المذاهب الأخرى، فيما أولادهم مشغولون بألعابهم الوحشية مع الحيوانات، ومع بعضهم، والمتعارضة مع المسيحية وتعاليم يسوع.
في حكايات الترحال السورية نرانا كما نحن، سواءً رضينا أم حنقنا.
لقد وصف حقبة من الزمن طالت، ولمّا تنته بعد. سمعنا بعضها من آبائنا وأجدادنا المخضرمين ممن أدركوا أواخر أيام دولة بني عثمان، وبداية نشوء الدول الوطنية أيام الانتداب وقد رووا لنا أشياءّ غريبة شبيهة بحكايات كاتبنا، رأوها بأم العين وعاشوها. الشيء المثير أنه يتكلم عنا في هذه الأيام، وليس فقط قبل قرنٍ من الزمان.
إنه يحكي عن أشخاص طيبين عاشوا في عالم مليء بالشر والسوء.
أنا لا أقول إنها حكايات سورية بريشة روسية، بل أراها نحن كما شاهدنا كوندوروشكين بنظره قبل أن يحفظها بمرآته البلورية الساحرة.
أستطيع أن أقول بأنها نموذج للأدب الإنساني العالمي وللتعاون بين الشعوب. إنها أدب أُممي بدون تصنع أو تكلف أو كذب ورياء. بل هي وجه من وجوه الصداقة بين الشعوب.
أشير إلى نظرة الكاتب الروسي لنا من خلال حكاياته الطائفية والمذهبية عنا، وذلك الصراع العبثي المرير فيما بيننا، بأنه كان كمن يستكشف الغيب، متنبئا بتفكك مجتمعاتنا وكياناتنا التي كانت تنمو في رحم الحياة وتتهيأ للولادة، قبل أن تمتد أيادي الدول الكبرى -ومنها روسيا-، لتمزيقها ولتعطي المسؤولية لاحقا لدول حالمة بإمبراطوريات مندثرة لن تعود أبدا. لقد وضع إصبعه على الجرح: مشاكل سوريا وسائر المشرق، هي بالانقسام العمودي، مما يتيح للبعض سلخ جلود الشعب واغتصاب ماله.
لا خلاص أبدا لوطننا العربي، وللشرق إلا بإلقاء كل أدبيات التخلف والحقد والتعصب في متاحف التاريخ مع الفؤوس والرماح الحجرية وكتب المبصرين والمشعوذين الصفراء الباهتة.
أتمنى لو تُتَرجم أعمال كوندوروشكين عن الحياة الروسية، وعن أهلها وأطفالها إلى اللغة العربية، وليس ما كتبه عنا فقط.
لقد أجاد عماد الدين رائف أيما إجادة ترجمة الترحال إلى العربية "ترجمة أمينة وكاملة"، مثلما كان حلمي مراد يصف ترجمات الروايات العالمية، التي أصدرها في مطبوعات "كتابي" المصري الشهيرة بستينات القرن الماضي، فنضحك مازحين - وكنا في سِنّ التعش أو teen age حينها - من تكون هاتان السيدتان أمينة وكاملة؟
أفتخر بابن مدينتي المترجم الأستاذ عماد الدين رائف. أرى فيه وبمجموعة من الأدباء والشعراء من مدينة صور التاريخية الجميلة والعريقة، دليلا على استمرار الحياة ونبض الدم اللبناني – العربي في هذا الشرق الساحر الحكيم المعطاء.
أنتظر بشوق صدور الباقة التالية لحكايات العمّ ستيبان كوندوروشكين العزيز، والتي ترجمها لنا الصديق عماد. مثلما كنت أنتظر صغيراً عودة الوالد من بيروت حاملاً لي القصص الممتعة التي سوف أقرأها بفرحٍ وسرور.

صخر عرب (كاتب وروائي)
صور، في 28 شباط/ فبراير 2019


Comments