ماريا نيقولايفا وسيميائية الفضاء في الأدب اللبناني

 


 أثناء مشاركتي في المؤتمر الأكاديمي الدولي، الذي نظمّه "البيت اللبناني في موسكو" واستضافته الجامعة الروسية للصداقة بين الشعوب، كان من دواعي سروري أن ألتقي بالمرشحة لدرجة العالمية في العلوم الفلسفية ماريا فلاديميروفنا نيقولايفا وأستمع إلى محاضرتها. حمل المؤتمر عنوانًا تكريميًا للكاتب اللبناني الكبير ميخائيل نعيمه، لمناسبة الذكرى الثلاثين بعد المئة على ولادته، وكان بحث نيقولايفا، التي مثّلتْ معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية، بعنوان "طبيعة الانسان والكون في أدب ميخائيل نعيمه".

بعد انتهاء أعمال المؤتمر، استضافنا "البيت اللبناني" برئاسة الصديق الدكتور فرحات الجمل في مقهى قرب كلية العلوم الانسانية والاجتماعية في جامعة الصداقة، فتحلقنا حول طاولة العشاء، حيث كانت نيقولايفا إلى جانب زميلها المفكر والعالم القدير في العلوم المشرقية والإسلاميات توفيق إبراهيم. ثم أقلنا، نيقولايفا وإبراهيم وأنا، البروفيسور مشعل خداج، وهو المنظم النشيط للمؤتمر ونائب رئيس "البيت اللبناني"، إلى بيوتنا في رحلة طويلة عبر موسكو، وقد أسعدني الحديث إلى نيقولايفا، التي استمهلتني حين وصلت إلى منزلها وسط موسكو أن تجلب لي كتابها الأخير هدية، وأنا بدوري قدمت لها هدية متواضعة هي كتاب "من بيروت وعنها – أوراق أوراسية في التفاعل الحضاري" (بيروت: دار المصور العربي، 2018).

كتاب نيقولايفا، الذي انتهيت لتوي من قراءته، بعنوان "عبقري المكان: سيميائية الفضاء في الأدب اللبناني – القرن العشرون"، دراسة أدبية نقدية قيّمة تبحث في البنية النصّيّة من رواية وقصة وشعر، كمعبّر عن الوجود الإنساني لكبار الكتّاب والشعراء اللبنانيين. وتلحظ الدراسة أن اهتمامات الكاتب أو الشاعر بالمكان نابعة من حاجته إلى إدراك العلاقات الحيوية في بيئته. ثم ينتقل البحث إلى إدراك تشكيل الفضاء للحيز الزماني الذي تظهر فيه شخصيات النصوص منغمسة بالأحداث، فتكون رهينة المكان وفق حساسية الكاتب أو الشاعر أو الروائي.

وتنطلق نيقولايفا من تحرير الدراسة النقدية الأدبية من رواسب التفكير الاستشراقي المسبق وإسقاطاته، تقول: "إن دراسة الأدب اللبناني الحديث، وآداب الدول العربية المشرقية الأخرى، لا تزال مؤطرة في علوم الاستشراق الوطنية والأجنبية في إطار المفهوم الجغرافي المعقد والتاريخ السياسي للشرق الأوسط. ذلك على الرغم من أنّه بات معروفًا أن الدراسات المتعلقة بتاريخ الثقافات تختلف حدودها عن التاريخ السياسي أو الديني. لذلك، فإنه لا يمكن، وبشكل دائم، تحديد مدى التماثل فيما بين الأطر الجغرافية والتاريخية الثقافية في دراسة محددة". إلا أن هذه المهمة ليست بهذه السهولة، لاسيما وأن المدى الجغرافي "الذي يقع فيه لبنان الحديث، تبقى حدوده مفتوحة في مسار تعريفها، ويمتد ذلك لمئات كثيرة من السنين. وهي مثال حيّ على منتج تمازج عدد كبير من التقاليد والمدارس الثقافية في منطقة واسعة تسمّى حوض المتوسط".

قسّمت نيقولايفا دراستها على مقدمة وثلاثة أقسام وخلاصة. وهي في دراستها للفضاء المكاني وتأثيره في الكاتب وشخصيات نصّه والأشياء من حولها، تنظر إلى تقسيمات الخريطة اللبنانية نفسها. وشكلت أعمال أدباء وشعراء كثيرين مدونة بحثها، منهم توفيق يوسف عواد، إملي نصر الله، ميخائيل نعيمه، جبران خليل جبران، أمين الريحاني، ناديا تويني، أمين معلوف، ليلى بعقليني، سهيل إدريس، جورج حنا، غادة السمان، حنان الشيخ،... وآخرون.  القسم الأول من الدراسة يغطي البحر والساحل، وهو بعنوان "البحر: رياح الأبيض المتوسط السبعة"، ثم تنتقل من البحر وساحله نحو الجبل، الذي اتخذ لبنان اسمه منه، والقسم الثاني بعنوان "الجبال: الأبدية"، أما القسم الأخير فهو مخصص للحاضرة، بعنوان "المدينة: الزمن". فالبحث، وإن كان مكرسًا لدراسة ملامح إدراك فضاء النصّ، والموئل (المكان)، كأحد اتجاهات النقد الأدبي والفني الحديث، القائم على فهم الثقافة في إطار جغرافي محدد بناء على أعمال الأدب اللبناني الحديث، إلا أنّ قيمته المضافة تكمن في فتح باب أمام الباحثين للانعتاق من المدرسة القديمة المقيدة بإسقاطات إستشراقية إلى رحاب النقد المبني على فهم لبنان الجغرافيا والناس عبر نصوص الأدباء والشعراء، وكذلك فهم عقلية المجتمع في لبنان، الذي يعتبر من بقعة زاخرة بالتقاليد الثقافية المتنوعة، تعتبر لدى عدد من الباحثين  الأكثر ثراء بالثقافة والأكثر إثارة للاهتمام بين بلدان العالم العربي.

Comments